قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ تَعَالَى : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) .
وَقَالَ تَعَالَى : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) . وَقَالَ تَعَالَى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) الْآيَةَ .
فَهَذَا عَامٌّ لَا خَاصَّ فِيهِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ
وَذِي رُوحٍ ، وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاَللَّهُ خَالِقُهُ . وَكُلُّ
دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : (
إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .
-
ص
24
-
وَقَالَ تَعَالَى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الْآيَةُ ، وَقَالَ تَعَالَى : ( إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَبَيَّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ
فَأَمَّا الْعُمُومُ مِنْهَا ، فَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
) فَكُلُّ نَفْسٍ خُوطِبَ بِهَذَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَكُلُّهَا شُعُوبٌ وَقَبَائِلُ .
وَالْخَاصُّ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
) لِأَنَّ التَّقْوَى إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا وَكَانَ
مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الْبَالِغِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ
مِنْ الدَّوَابِّ سِوَاهُمْ وَدُونَ الْمَغْلُوبِ عَلَى عُقُولِهِمْ
مِنْهُمْ ، وَالْأَطْفَالُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا عَقْلَ التَّقْوَى
مِنْهُمْ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّقْوَى وَخِلَافِهَا إلَّا
مَنْ عَقَلَهَا وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ خَالَفَهَا ، فَكَانَ مِنْ
غَيْرِ أَهْلِهَا .
-
ص
25
-
وَفِي السُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «
رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ،
وَالصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ . » قَالَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَكَذَا التَّنْزِيلُ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
عَلَى الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِمَّنْ
غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ وَدُونَ الْحَيْضِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ ) الْآيَةُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ غَيْرُ مَنْ جَمَعَ لَهُمْ مِنْ النَّاسِ ،
وَكَانَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ نَاسًا غَيْرَ مَنْ جَمَعَ لَهُمْ وَغَيْرَ
مَنْ مَعَهُ مِمَّنْ جُمِعَ عَلَيْهِ مَعَهُ وَكَانَ الْجَامِعُونَ لَهُمْ
نَاسًا فَالدَّلَالَةُ بَيِّنَةٌ .
لِمَا وَصَفَتْ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ
بَعْضٍ ، وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنْ لَمْ يَجْمَعْ لَهُمْ النَّاسُ
كُلُّهُمْ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا هُمْ
النَّاسَ كُلَّهُمْ .
وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمُ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ
وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَعَلَى مَنْ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَثَلَاثَةٍ
مِنْهُمْ كَانَ صَحِيحًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، أَنْ يُقَالَ : ( قَالَ
لَهُمْ النَّاسُ ) .
قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ
نَفَرٍ ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ، يَعْنُونَ الْمُنْصَرِفِينَ
مِنْ أُحُدٍ وَإِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ غَيْرُ كَثِيرِينَ مِنْ النَّاسِ ،
جَامِعُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ الْمَجْمُوعِ لَهُمْ وَالْمُخْبِرُونَ
لِلْمَجْمُوعِ لَهُمْ غَيْرُ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ
النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ غَيْرُ الْجَامِعِينَ وَالْمَجْمُوعُ لَهُمْ
وَلَا الْمُخْبِرِينَ .
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ، فَدَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَقُودُهَا بَعْضُ النَّاسِ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) .
-
ص
26
- قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ) وَذَكَرَ سَائِرَ الْآيَاتِ .
ثُمَّ قَالَ : فَأَبَانَ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ مِمَّا سُمِّيَ فِي الْحَالَاتِ ، وَكَانَ عَامَّ الْمَخْرَجِ .
فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا بَعْضُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ
دُونَ بَعْضٍ ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دِينُ الْوَالِدَيْنِ
وَالْمَوْلُودِ وَالزَّوْجَيْنِ وَاحِدًا ، وَلَا يَكُونُ الْوَارِثُ
مِنْهُمَا قَاتِلًا وَلَا مَمْلُوكًا .
وَقَالَ تَعَالَى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) الْآيَةُ .
فَأَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
الْوَصَايَا يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ وَلِأَهْلِ الْمِيرَاثِ
الثُّلُثَانِ وَأَبَانَ أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ
وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ وَلَا مِيرَاثَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أَهْلُ الدَّيْنِ
دَيْنَهُمْ .
وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ
-
ص
27
- ثُمَّ إجْمَاعُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثٌ إلَّا
بَعْدَ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ وَلَمْ تَعْدُو الْوَصِيَّةُ أَنْ تَكُونَ
مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّيْنِ ، أَوْ تَكُونَ وَالدَّيْنُ سَوَاءً ،
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةَ الْوُضُوءِ
وَوُرُودَ السُّنَّةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآيَةَ السَّرِقَةِ
وَوُرُودَ السُّنَّةِ بِأَنْ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ ؛
لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ مُحْرَزَيْنِ وَأَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا مَنْ
بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبْعَ دِينَارٍ .
وَآيَةَ الْجَلْدِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّ
الْمُرَادَ بِهَا الْبِكْرَانِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ ، وَآيَةَ سَهْمِ ذِي
الْقُرْبَى وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَ سَائِرِ الْقُرْبَى وَآيَةَ الْغَنِيمَةِ وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّ السَّلَبَ مِنْهَا لِلْقَاتِلِ .
وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِلْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ، وَلَوْلَا
الِاسْتِدْلَال بِالسُّنَّةِ كَانَ الطُّهْرُ فِي الْقَدَمَيْنِ وَإِنْ
كَانَ لَابِسًا لِلْخُفَّيْنِ ، وَقَطَعْنَا كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ
سَارِقٍ ، وَضَرَبْنَا مِائَةً كُلَّ مَنْ زَنَى وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا ،
وَأَعْطَيْنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ وَخَمَّسْنَا السَّلَبَ
لِأَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ .
وَقَالَ تَعَالَى : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) . وَقَالَ تَعَالَى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) الْآيَةَ .
فَهَذَا عَامٌّ لَا خَاصَّ فِيهِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ
وَذِي رُوحٍ ، وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاَللَّهُ خَالِقُهُ . وَكُلُّ
دَابَّةٍ فَعَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : (
إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .
-
ص
24
-
وَقَالَ تَعَالَى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الْآيَةُ ، وَقَالَ تَعَالَى : ( إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَبَيَّنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ
فَأَمَّا الْعُمُومُ مِنْهَا ، فَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
) فَكُلُّ نَفْسٍ خُوطِبَ بِهَذَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَكُلُّهَا شُعُوبٌ وَقَبَائِلُ .
وَالْخَاصُّ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
) لِأَنَّ التَّقْوَى إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا وَكَانَ
مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الْبَالِغِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ
مِنْ الدَّوَابِّ سِوَاهُمْ وَدُونَ الْمَغْلُوبِ عَلَى عُقُولِهِمْ
مِنْهُمْ ، وَالْأَطْفَالُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا عَقْلَ التَّقْوَى
مِنْهُمْ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّقْوَى وَخِلَافِهَا إلَّا
مَنْ عَقَلَهَا وَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ خَالَفَهَا ، فَكَانَ مِنْ
غَيْرِ أَهْلِهَا .
-
ص
25
-
وَفِي السُّنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «
رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ،
وَالصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ . » قَالَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَكَذَا التَّنْزِيلُ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ
عَلَى الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ دُونَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِمَّنْ
غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ وَدُونَ الْحَيْضِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ ) الْآيَةُ . قَالَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ غَيْرُ مَنْ جَمَعَ لَهُمْ مِنْ النَّاسِ ،
وَكَانَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ نَاسًا غَيْرَ مَنْ جَمَعَ لَهُمْ وَغَيْرَ
مَنْ مَعَهُ مِمَّنْ جُمِعَ عَلَيْهِ مَعَهُ وَكَانَ الْجَامِعُونَ لَهُمْ
نَاسًا فَالدَّلَالَةُ بَيِّنَةٌ .
لِمَا وَصَفَتْ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا جَمَعَ لَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ
بَعْضٍ ، وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنْ لَمْ يَجْمَعْ لَهُمْ النَّاسُ
كُلُّهُمْ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا هُمْ
النَّاسَ كُلَّهُمْ .
وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْمُ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ
وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَعَلَى مَنْ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَثَلَاثَةٍ
مِنْهُمْ كَانَ صَحِيحًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، أَنْ يُقَالَ : ( قَالَ
لَهُمْ النَّاسُ ) .
قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ
نَفَرٍ ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ، يَعْنُونَ الْمُنْصَرِفِينَ
مِنْ أُحُدٍ وَإِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ غَيْرُ كَثِيرِينَ مِنْ النَّاسِ ،
جَامِعُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ الْمَجْمُوعِ لَهُمْ وَالْمُخْبِرُونَ
لِلْمَجْمُوعِ لَهُمْ غَيْرُ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ
النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ غَيْرُ الْجَامِعِينَ وَالْمَجْمُوعُ لَهُمْ
وَلَا الْمُخْبِرِينَ .
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ، فَدَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا وَقُودُهَا بَعْضُ النَّاسِ ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) .
-
ص
26
- قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ) وَذَكَرَ سَائِرَ الْآيَاتِ .
ثُمَّ قَالَ : فَأَبَانَ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ مِمَّا سُمِّيَ فِي الْحَالَاتِ ، وَكَانَ عَامَّ الْمَخْرَجِ .
فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا بَعْضُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَزْوَاجِ
دُونَ بَعْضٍ ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دِينُ الْوَالِدَيْنِ
وَالْمَوْلُودِ وَالزَّوْجَيْنِ وَاحِدًا ، وَلَا يَكُونُ الْوَارِثُ
مِنْهُمَا قَاتِلًا وَلَا مَمْلُوكًا .
وَقَالَ تَعَالَى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) الْآيَةُ .
فَأَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
الْوَصَايَا يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ وَلِأَهْلِ الْمِيرَاثِ
الثُّلُثَانِ وَأَبَانَ أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ
وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ وَلَا مِيرَاثَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ أَهْلُ الدَّيْنِ
دَيْنَهُمْ .
وَلَوْلَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ
-
ص
27
- ثُمَّ إجْمَاعُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثٌ إلَّا
بَعْدَ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ وَلَمْ تَعْدُو الْوَصِيَّةُ أَنْ تَكُونَ
مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّيْنِ ، أَوْ تَكُونَ وَالدَّيْنُ سَوَاءً ،
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةَ الْوُضُوءِ
وَوُرُودَ السُّنَّةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَآيَةَ السَّرِقَةِ
وَوُرُودَ السُّنَّةِ بِأَنْ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ ؛
لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ مُحْرَزَيْنِ وَأَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا مَنْ
بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ رُبْعَ دِينَارٍ .
وَآيَةَ الْجَلْدِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّ
الْمُرَادَ بِهَا الْبِكْرَانِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ ، وَآيَةَ سَهْمِ ذِي
الْقُرْبَى وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَ سَائِرِ الْقُرْبَى وَآيَةَ الْغَنِيمَةِ وَبَيَانَ السُّنَّةِ بِأَنَّ السَّلَبَ مِنْهَا لِلْقَاتِلِ .
وَكُلُّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِلْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ، وَلَوْلَا
الِاسْتِدْلَال بِالسُّنَّةِ كَانَ الطُّهْرُ فِي الْقَدَمَيْنِ وَإِنْ
كَانَ لَابِسًا لِلْخُفَّيْنِ ، وَقَطَعْنَا كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ
سَارِقٍ ، وَضَرَبْنَا مِائَةً كُلَّ مَنْ زَنَى وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا ،
وَأَعْطَيْنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ وَخَمَّسْنَا السَّلَبَ
لِأَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ .