التربيـة السـياسـية
الدكتور خالد احمد الشنتوت
تعـريـف :
التربية السياسية هي إعداد الفرد المسلم ليكون مواطناً صالحاً في المجتمع
المسلم ، يعرف واجباته فيؤديها من تلقاء نفسه ، طمعاً في ثواب الله عز وجل ،
قبل المطالبة بحقوقه ، كما يعرف حقوقه فيسعى إلى اكتسابها بالطرق المشروعة
.
والتربية السياسية جزء أساس من التربية الإسلامية ، لأن التربية الإسلامية
تربية شاملة للفرد والمجتمع ، وهذه التربية السياسية واجب اليوم ؛ من أجل
إعداد اللبنات المسلمة الصالحة لتكوين المجتمع المسلم ، وهي ركن أساس من
أركان التربية الإسلامية لأن التربية الإسلامية تشمل التربية الروحية ،
والتربية العقلية ، والتربية الجسدية ، والتربية الوجدانية ، والتربية
الاجتماعية ( ومنها التربية السياسية ) ، والتربية العسكرية ، والتربية
الاقتصادية ...إلخ ، فالإسلام دين للفرد وللمجتمع ، ولايقوم مجتمع مسلم
بدون سياسة مسلمة ، فالتربية السياسية ( تعد المواطنين لممارسة الشئون
العامة في ميدان الحياة ، عن طريق الوعي والمشاركة ، وعن طريق إعدادهم
لتحمل المسؤولية ، وتمكينهم من القيام بواجباتهم، والتمسك بحقوقهم ، وتبدأ
التربية السياسـية في مرحلة مبكرة من العمر ، وتستمر خلال سـنوات العمر
كله) ( عثمان عبد المعز ، 13 ) .
ولا بد أن تسهم جميع المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت والمدرسة
والأندية ووسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزة ، والجامعات والمكتبات
العامة ؛ في إعداد المواطنين المسلمين إعداداً سياسياً ، كي يقوم المجتمع
المسلم .
ومما ابتلي به المسلمون خوفهم من السياسة ، وابتعاد العلماء والدعاة
المسلمين عنها ، بعد أن شـوّه مكيافللي مفهومها ، وبعد أن سبق إليها
العلمانيون والملحدون وأعداء المسلمين ، وصاروا ينظرون إلى البلدان التي
خربها تصارع الأحزاب السياسية فيها ؛ كما حصل في لبنان خلال العقدين السابع
والثامن من القرن العشرين ، ويظنون أن كل بلد سوف يشجع العمل السياسي سوف
يحصل لـه ما حصل في لبنان ، وهذا مجانب للصواب ، لقد حصل في لبنان ماحصل ؛
لأن الشعب يجهل السياسة ، ولم يرب َ ذلك الشعب ولاغيره التربية السياسية
التي تعد المواطن المسلم كي يقدم واجباته نحو المجتمع طاعة لله عزوجل
وطمعاً في ثوابه ، كما أنه يطالب بحقوقه بالطرق المشروعة .
إن تصارع الأحزاب بالبندقية دليل مؤكد على جهل أهل ذلك البلد بالعمل
السياسي، فالعمل السياسي ليس عملاً عسكرياً ، بل يبدأ العمل العسكري عندما
يفشل العمل السياسي ، وعندما نجد صراعاً مسلحاً في بلد ما ، هذا دليل واضح
ومؤكد على تخلف أهل هذا البلد في العمل السياسي، وحاجتهم الماسـة إلى
التربية السياسية .
ومما لاريب فيه أن بلدان أوربا الغربية ، وأميركا الشمالية متقدمة في العمل
السياسي ، لذلك لم نسمع عن صراع مسلح ذي بال في أوربا الغربية أو أميركا
الشمالية ، فالانتخابات والتعددية السياسية وتداول السلطة وحرية الرأي
والعقيدة ، من البدهيات الراسخة فيها .
الأسـرة من وســائل التربية السياسيـة
حيث تدرب الأسرة أولادها على طاعة الأب والأم وربطها بطاعة الله عزوجل ، وهذا تمهيد لغرس مفهوم البيـعة عند الناشئة :
الطـاعـة هي البيعـة
البيعة اصطلاح سياسي إسلامي خلاصته : أنه يجب على كل مسلم ديانة أن يبايع
أميراً يطبق شرع اللـه عزوجل في المجتمع ، لأن الدين لايقوم بدون ذلك ، (
ولا يجوز للمسلمين أن يبيتوا ليلة واحدة بغير إمام يقودهم بكتاب اللـه
عزوجل وسنة رسوله(ص) ؛ وإلا كانوا آثمين ([1]) . وقد شغل صحابة رسول اللـه r
وفيهم العشرة المبشرون بالجنة شغلوا باختيار خليفة للمسلمين قبل دفن
رسول اللـه r ؛ لما يعرفونه من أهمية الأمر وخطورته ، والبيعة في مصطلحها
الأصلي هي مبايعة إمام المسلمين ذي الشوكة ، وتسمى البيعة العامة ، حيث
يُبايع الإمام من أهل الشورى أولاً ، وعندئذ يصير إماماً ، ويجب عندئذ على
كافة المسلمين مبايعته .
1-ومضمون البيعة سواءً كانت عامة أو خاصة هو الطاعة ، فمن يبايع
الخليفة يتعهد بطاعته في المنشط والمكره ، مالم يؤمر بمعصية . ومن يبايع
أميراً ما فإنه يعاهده على الطاعة في غير معصية اللـه ، والطاعة هي البيعة
عندماتصدر من المطيع تلقائياً بدون إكراه . ويقصد بها المطيع رضا اللـه
عزوجل . وأن يكون المُطاع مسلماً .
فالشاب المسلم يطيع والديه رغبة في ثواب اللـه عزوجل ، بدون قسر من أحد ،
وتجده يبالغ في طاعتهما ، ويحذر مخالفتهما ، طمعاً في ثواب اللـه عزوجل ،
وهكذا تكون الطاعة بيعة .
من الطاعـة إلى البيعـة
ينشأ الطفل في البيت ، وينغرس فيه أن طاعة الوالدين من طاعة اللـه عزوجل ،
فعن عبداللـه بن عمرو بن العاص رضي اللـه عنهما أن رسول اللـه r : قال (( رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )) ([2]) .
ثم يدخل الطفل المدرسة بعد أن غرس البيت في ذهنه أن طاعة المدرس مثل طاعة
الأب ، لأن المدرس هو الأب الروحي للطالب فعليه طاعته . وفي المدرسة يتعلم
الطالب أن طاعة ولي الأمر من طاعة اللـه عزوجل ، وقد أمر بها اللـه سبحانه
وتعالى فقال عزوجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللـه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ... } ، فقد أخرج البخاري يرحمه اللـه عن أبي هريرة t أن رسول اللـه r قال : (( من أطاعني فقد أطاع اللـه ، ومن عصاني فقد عصى اللـه ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني )) ([3]) . ويقول سبحانه وتعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع اللـه ... } [ النساء 80 ] .
وهكذا ننتقل منطقياً وتربوياً مع نشأة الطفل ، من طاعته لوالديه بعد ربطها
بطاعة اللـه عز وجل ، إلى طاعته لولي أمره مع ربطها بطاعة اللـه عز وجل ،
وبذلك نصل إلى مجتمع مسلم ، ينفذ أفراده واجباتهم طمعاً في ثواب اللـه
عزوجل ، ويمتنعون عن مخالفة الشرع وما أمر به ولي الأمر مخافة عقاب اللـه
سبحانه وتعالى الذي يراهم ، حتى لو غفل ولي الأمر عنهم ، كما هو حال الفتاة
التي امتنعت عن خلط اللبن بالماء ، لأن أمير المؤمنين نهى عن ذلك ، ولأن
اللـه يراها
وسائل البيت المسلم لغرس فضيلة الطاعة عند الناشئة 1 ـ قوامة الرجل في البيت المسلم
البيت مجتمع صغير ، والأب أميره ، وليست الأم لأن اللـه عزوجل يقول]الرجال قوامون على النساء بما فضل اللـه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ [ النساء :34 ] . والزوجة المسلمة تتقرب إلى اللـه عزوجل بطاعة زوجها ، فعن أبي هريرة t أن رسول اللـه (ص) قال : (( لو كنت آمر اً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها )) [ أخرجه الترمذي برقم 1159 ، وصححه ] والسجود تمام الطاعة ، أي أن الزوجة لا تخالف زوجها ، وتطيعه في غير معصية اللـه عزوجل .
وقوامة الأب في الأسرة من القيم الإسلامية الأساسية ، ويجب على الأم
المسلمة أن تكون قدوة حسنة لبناتها ، فتنغرس في نفوسهن فضيلة الانقياد
للزوج عندما يصبحن أمهات في المستقبل . وقوامة الرجل في الأسرة صفة أساسية
من صفات الأسرة المسلمة ، الأسرة المتزنة التي تقدم للأمة جيلاً صالحاً ،
لذا يجب على البيت المسلم أن يربي بناته على قوامة الرجل ، وهذه بعض
المعالم علها تساعده في هذه المهمة .
1- إذا طلب الأطفال من أمهم أمرما ( كالذهاب إلى الحديقة مثلاً ) ،
فلا بد أن تتريث في اتخاذ القرار بمفردها ، وعليها أن تقول لهم : نستأذن
أباكم عندما يعود إلى البيت ، فهو أميرنا ، وإذا سمح لنا نذهب كما تريدون ،
ومع تكرار التلقين تنغرس هذه القيمة المزدوجة عند الأطفال وهي :-
أ - طاعة الأولاد لأبيهم ، وعدم الخروج من المنزل إلا بإذنه ومعرفته .
ب - طاعة الزوجة لزوجها ، وترسيخ مبدأ قوامة الرجل عند البنات في الأسرة .
2- تطلب إحدى صديقات الأم منها زيارة صديقة ثالثة لهما فتجيبها الأم
على مسمع من أولادها وبناتها سأطلب من زوجي إذناً فإن وافق لي ذهبت معك ،
وعندما تطلب هذا الإذن يفضل أن يكون أمام الأولاد ، فإذا سكت لا تلح عليه ،
وتخبر صديقتها أمام أطفالها بأن زوجهالم يسمح لها . وتحرص الأم على أن لا
تخرج من البيت بدون إذن زوجها .
3- عندما يأمر الأب أفراد الأسرة بأمر ما ، تسارع الأم إلى تنفيذ
الأمر ، لتكون قدوة صالحة أمام أطفالها ، وحثهم على سرعة التنفيذ ، وعندما
يشعر الأطفال بذلك يتربون على معنى قوامة الرجل في الأسرة .
4- تلقن البنات في البيت المسلم هذه القيم الإسلامية مثل الآية الكريمة { الرجال قوامون على النساء } والأحاديث الشريفة التي تؤمر الزوجة بطاعة زوجها .
طاعة الوالدين من طاعة اللـه وهذا أساس البيعة
عن عبداللـه بن عمرو بن العاص رضي اللـه عنهما أن رسول اللـه r قال : (( رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )) ([4]) .
ويتضح من النصوص الكثيرة أن طاعة الوالدين والسعي من أجل كسب رضاهما واجبة
على المسلم ، والمسلم العاقل يسعى جاهداً لكسب رضاهما ، ليفوز بالنهاية
برضا اللـه عزوجل وهو غاية ما يرجوه المسلم .
قال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
... } جاء في أضواء البيان [ 3/496 ] أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة
بإخلاص العبادة له وحده ، وقرن ذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وجعل بر
الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا ، المذكور هنا ذكره في آيات أُخر
كقوله في النساء : ] واعبدوا اللـه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً [ وفي سورة البقرة : ] وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللـه وبالوالدين إحساناً وفي سورة لقمان : ] أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } .
وعندما تتربى الأجيال من أولاد وبنات على هذه الفضيلة ، تنغرس لديهم فضيلة
الطاعة ، التي تتطور فيما بعد من طاعة الوالدين إلى طاعة الأمير ثم الإمام
المسلم ، لأن في كل منهما النصوص الواضحة والثابتة .
طاعة الأمير المسلم من طاعة اللـه وهذه هي البيعة
قال تعالى في كتابه العزيز : ] من يطع الرسول فقد أطاع اللـه ... [ [ النساء : 80 ] وعن أبي هريرة t قال : قال رسول اللـه r : (( من أطاعني فقد أطاع اللـه ، ومن عصاني فقد عصى اللـه ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني )) ([5]) .
هذه نصوص واضحة لا يختلف عليها إثنان ، ومثلها النصوص المتعلقة بطاعة
الوالدين ، والمسلم العاقل يعرف أن مخالفة الوالدين عقوق من أكبر الكبائر ،
ومخالفة الأمير إثم ومعصية لله عزوجل .
تأكيد البيت المسلم لأولاده على طاعة المدرس المسلم
ومن أجل نقل اتجاه الطاعة من الوالدين ليشمل المدرس ومدير العمل فيما بعد ،
يكرر الوالدان على مسامع أولادهم وجوب طاعة المدرّس والمدرّسة . ويكرر
الوالدان زيارة المدرسة للتأكد من سلامة موقف أولادهم تجاه المدرس ([6]) .
ويربط الوالدان بين المدرس والوالد أوالوالدة ، من أجل توسيع طاعة الوالدين
لتشمل المدرسين .
خـلاصــة
وهكذا نبدأ بغرس طاعة الوالدين ، ثم نربطها بطاعة اللـه عزوجل ، ونلقن
الأطفال أن طاعتهم للوالدين فيها ثواب من اللـه عزوجل ، ثم ندخل طاعة
المدرس مع طاعة الوالدين ، ثم مدير المدرسة ، فمدير العمل ، ثم طاعة أمير
البلد . وهكذا نربي أفراد مسلمين لمجتمع مسلم ، يقوم بالبيعة ويؤدي حق
اللـه عزوجل فيها . ويكون كالبنيان المرصوص كما قال عنه رسول اللـه r .
وعندما نربي مسلمين يطيعون والديهم طاعةً لله عزوجل ، ويطيعون مدرسيهم
طاعةً لله عزوجل ، ويطيعون أمراءهم طاعةً لله عزوجل ، عندئذ نصل إلى
المجتمع المسلم الذي وصفه رسول اللـه r بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
ـ المســجد من وسائل التربية السياسية :
للمسجد مكان الصدارة في المجتمع المسلم ، قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين
} [ آل عمران : 96 ] . قال ابن كثير يرحمه الله [1/383] : ( يخبر تعالى
أن أول بيت وضع للناس ، أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم ، يطوفون به ويصلون
إليه ، ويعتكفـون عـنده ، ( للذي ببكة ) يعني الكعبة التي بناها إبراهيم
عليه السلام ) .
كما أن رسول اللهr لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في
قبــاء حتى بدأ ببناء مسجد قباء ، وهو أول مسجد بني في المدينة كما ذكر
ابن كثير يرحمه الله ( 3/209) . وعنـدمـا واصـل سـيـره إلى قلب المدينة (
يثرب - يومذاك ) كان أول عمل قام به هو بناء مسـجده r ([7]) . وهذا يدل على
المكانة العظيمة للمسجد في المجتمع المسلم ، فهو بيت الله ، وكفاه شرفاً
بهذا النسب { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } [ الجن :18 ] .
وظـائف المسـجد في المجتمع المسلم
للمسجد وظائف متعددة في المجتمع المسلم أولها وأهمها إقامة الصلاة وهي
الركن الثاني من أركان الإسلام ، حيث يلتقي المسلمون خمس مرات في اليوم
والليلة ، بعد أن يسمعوا النداء إليها مذكراً بتوحيد الله ( الله أكبر ....
أشهد أن لاإله إلا الله .... ) .
والوظيفة الثانية للمسجد التربية الإسلامية ( الروحية والعقلية والسياسية
والجسدية ... ) ونشر العلم ، وتعليم المسلمين ما ينفعهم في آخرتهم ، ثم ما
ينفعهم في معاشهم . وعندما انطلق العلم من المسجد كان مباركاً خالصاً لله
عزوجل ، ومن ثم نشأت الكتاتيب في المسـاجد ، ثم تحولت إلى مدارس وجامعات
([8]).
وفي المسجد تعقد المؤتمرات لمناقشة أحوال الأمة وما يواجهها من مشكلات ،
وفيه تتخذ قرارات الشـورى وفيه يجتمع أهل الحل والعقد لرسم السياسة العليا
للمجتمع ، كما كان في عهد رسول الله r ، والخلفاء الراشدين رضوان الله
عليهم .
ومن المسجد كان العلماء يسيرون الجيوش المسلمة للدفاع عن المسلمين ، فهذا
ابن تيمية والعز بن عبد السلام - يرحمهما الله- يقودون المسلمين لمواجهة
التتار ، وحتى أثناء الحملة الفرنسية على مصر كان علماء الأزهر يقودون
المسلمين في مصر لمواجهة الفرنسيين مثل عبدالله الشرقاوي ، والإمام أحمد
الدردير ، وكان للأزهر دور كبير في ثورة (1919) ضد الإنجليز ووقفت الدوريات
العسكرية الإنجليزية أمام الأزهر لتمنع العلماء والطلاب من المظاهرات
([9]) .
هذه بعض وظائف المسجد في المجتمع المسلم ، ولايسمح المقام للتفصيل ، لأننا سنعود للحديث عن التربية السياسية في المسجد :
الصـلاة والـتربيـة السـياســية
وللصلاة فوائد كثيرة منها التربية السياسية التي تربي الفرد المسلم ليكون
مواطناً صالحاً في المجتمع المسلم ، ويمكن تعريف التربية السياسية بأنها :
إعداد المواطن الصالح للمجتمع المسلم ، الذي يعرف واجباته فيؤديها تقرباً
لله عزوجل ، ويعرف حقوقه فيطالب بها بالطرق المشروعة ، ومن المسلمات أن
الإنسان لا يعيش بدون مجتمع ، والمجتمع سابق على الفرد ، فلايوجد الفرد إلا
ضمن مجتمع ، ولا يستطيع الفرد أن يحقق وجوده الإسلامي إلا ضمن المجتمع ،
وثلاثة أرباع الفرائض والواجبات الإسلامية لاتتم بدون مجتمع مسلم ([10]) .
المسـجد وصلاة الجماعـة
وللمسجد أهمية كبيرة في تماسك المجتمع ليبقى حياً كالجسد الواحد كما وصفه رسول الله r عندما قال : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
)) ([11]) . وكيف يتراحم المسلمون إذا لم يرَ بعضهم بعضاً !!؟ لذلك كانت
صلاة الجماعة ليلتقى المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ، ويعيش الفرد
المسلم متفاعلاً مع المجتمع ، ولاينعزل عنه .
( إن أهم رسالات المسجد لقاءات المؤمنين في رحابه خمس مرات يومياً في عبادة
وتذاكر وتراحم ، وتعاون ، متماسكين كصفوفهم في الصلاة ، وصلاة المسلم في
المسجد أفضل من صلاته في بيته أو سوقه ، فعن أبي هريرة t عن النبي r قال :
(( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي
سوقه خمساً وعشرين ضعفاً،وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد
لايخرجه إلا الصلاة ،لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه خطيئة ،
فإذا دخل المسجد كان في صلاة ماكانت الصلاة تحبسه ، وتصلي عليه الملائكة
مادام في مجلسه الذي يصلي فيه ، اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، مالم يحدث
فيه )) ([12]) . ويتعلم المسلم في المسجد الكثير ، ومنه اتباع
النظام والتعود عليه ، عند تسوية الصفوف ، القدم بالقدم ، والكتف بالكتف ،
كما يتعلم التواضع ، فالفقير بجوار الغني ، كتف بكتف ، وقد يكون الإمام أقل
الناس مالاً ، والمأموم أكثر منه ثراء ([13]) .
وقد رغب رسول الله r في صلاة الجماعة ، وحث المسلمين عليها فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال : (( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة )) ([14]) . وعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال : ((
لو يعلم الناس مافي النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه
لاستهموا ، ولو يعلمون مافي التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون مافي
العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)) ([15]) .
هذه الأحاديث الشريفة وغيرها كثير ، تحض المسلمين على صلاة الجماعة في
المسجد ، لأن في صلاة الجماعة طاعة لله ورسوله ، ثم تربية روحية ، وتربية
سياسية ينتج عنها التكافل الاجتماعي والتوادد والتراحم ، حتى يصبح المسلمون
كالجسد الواحد .
الإمـام والمصـلون فـي المســـجد
ولصلاة الجماعة في المسجد قيم ومعاني إسلامية كبيرة وكثيرة ، منها هذا
الموقف العظيم ، حيث يصطف المصلون خلف الإمام ، والإمام أقرؤهم لكتاب الله ،
وليس أغناهم ، أو أعظمهم جاهاً ، أو أشـرفهم نسـباً ، وكلهم ينفذون
تعليماته رغبة في ثواب الله عزوجل ، يتابعونه ولايسبقونه ، يركعون بعد أن
يركع ، ويسجدون بعد أن يسجد ، يطيعونه طاعة لله عزوجل ، ورغبة في ثواب الله
عزوجل عندما يقبل صلاتهم .
وقد يدخل المسجد مسبوق أقرؤ من الإمام ، فيلتحق بالجماعة حالاً ، وقد يدخل
المسجد أمير والإمام شـاب يافع فيلتحق بالجماعة فوراً ، وينفذ أوامر الإمام
في الصلاة ، لأن المسلم يعلم جواز إمامة المفضول ، وما أعظم هذا المعنى في
المجتمع المسلم ، فالإمام في الصلاة ـ وهي أعظم شعائر الإسلام ـ يجوز أن
يكون مفضولاً ، وفي المصلين خلفه من هو أفضل منه ، وأحق منه في الإمامة ،
ومع هذا تجوز إمامة المفضول ، وصلاة الجميع صحيحة مقبولة إن شاء الله .
فمتى ينتبه المسلمون إلى هذا ، فينظرون إلى الإمامة ـ أي إمامة ـ بأنها
تكليف وليست تشريفاً ، والمهم أن يوجد إمام ، فلا صلاة جماعة بدون إمام ،
ولامجتمع مسلم بدون إمام . وإمام مطاع يتقرب الناس إلى الله بطاعته كما
يتقرب المصلون إلى الله بطاعة إمامهم في الصلاة . وينظر إليه المواطنون في
المجتمع ، كما ينظر المصلون إلى إمام الصلاة .
وقد يخطأ الإمام ـ إمام الصلاة ـ بالقراءة فيرده أقرب المصلين إليه ، بصوت
لايكاد يسمعه غيره، وما أشبه هذا بتقديم النصيحة إلى أمير المسلمين ،
فالأمير يخطأ لأنه بشر ، والمسلم مأمور بنصيحة الإمام كما وصى رسول اللهr :
(( الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم
)) ([16]) . ولا خير في أمة لاتنصح لحاكمها ، ومسؤولية العلماء والمصلحين
في نصح الحكام أكبر وأعظم ، ومن آداب النصيحة أن تكون سـراً ، قال بعضهم :
من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة ، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما
وبخه ، والمؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير .