.................. الروح
خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي . .فأرصد في ورقة كل ما أحفظه من أرقام
. .رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء و
الزملاء وتليفونات المصالح والجرائد وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيباً وعمليات الجمع والطرح
والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة وتواريخ ميلادي وميلاد أولادي وثوابت الرياض ة والطبيعة مثل
النسبة التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء وما تعلمته في
كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات البيضاء وحجم الدم وسرعة
النبض وسرعة التنفس وجرعات ال عقاقير .. وفي لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات
الأرقام .. تداعت في ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب الكتروني وكان المشهد مذهلا ً.
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد . .كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدع اؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة . .كل عدد له مذكرة تفسيرية ملحقة به تشرح
دلالته ومعناه ؟ وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا تختلط ولا يطمس
بعضها بعضًا؟
www.elaosboaonline.com
١٨
وغير الأرقام . .هناك الأسماء والاص طلاحات والكلمات .. والأشكال والوجوه .. تزدحم ا رأسنا
وهناك معالم الطبيعة التي طفنا ا والأماكن التي زرناها .. وهناك الروائح .. ومع كل رائحة صورة
لامرأة عرفناها أو مشهد نذكره و لواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات .. وهناك
الطعوم .. والنكهات . يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوقاً أو يتحرك الغثيان اشمئزازًا .. ومع كل
طعم .. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم أو جرعة دواء مريرة و مرض طويل ممض و
أوجاع أليمة .. حتى لمسة النسيم الحريرية و رائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا
لفحات الهواء الرطيب مع ذ كراها و كأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات و الهمسات و الوشوشات و الصخب و الصراخ و الضجيج و العويل و النشيج .
و فاصل من موسيقى .
و مقطع من أغنية ..
و لطمة على وجه ..
و قرقعة عصاً على الظهر .
و حشرجة ألم ..
كل هذا تحفظه الذاكرة و تسجله في دقة شديدة و أمانة و معه بطاقة بالتاريخ و المناسبة و أسماء
الأشخاص و ظروف الواقعة و محضر بالأقوال .. معجزة .. اسمها الذاكرة .
إن معنا رقيباً حقيقياً يكتب بالورقة و القلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
و ما نتخيل أحياناً أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه و أنه موجود يظهر لنا فجأة في لحظ ة استرخاء أو
حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي و أحياناً يظهر زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء ينسى أبدًا .. و لا شيء يضيع .. و الماضي مكتوب بالفعل لحظة بلحظة و دقة قلب بدقة
قلب .
و السؤال الكبير بل اللغز المحير هو .. أين توجد هذه الصور .. أين هذا الأرش يف السري ؟
و هو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالم و أكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ .. و إا ليست أكثر من تغيرات كيميائية كهربائية تحدث
لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث تمامًا كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل و إن هذه
اللفائف المسجلة تحفظ بالمخ و إا تدور تلقائيًا لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان في أمانة و دقة .
الذاكرة مجرد نقش و حفر على مادة الخلايا .
و مصيرها أن تبلى و تتآكل كما تبلى النقوش و تتآكل و ينتهي شأا حينما ينتهي الإنسان بالموت و
تتآكل خلاياه .
www.elaosboaonline.com
١٩
رأي مريح و سهل و لكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه . فإذا كانت الذاكرة هي
مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا
المخية .. و ينبغي أن يكون هناك توازٍ بين الحادثين .. كل نقص في الذاكرة معينة لا بد أن يق ابله
تلف في الخلايا المختصة المقابلة .. و هو أمر لا يشاهد في إصابات المخ و أمراضه .. بل ما يشاهد هو
العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف ، و إنما الذي يحدث هو عاهة في النطق
.. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات . إن الموتور هو ا لذي يتلف بتلف الخلايا .. أما
الذاكرة .. أما صورة الكلمات في الذهن فتظل سليمة .
و هذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة و لا التذكر .
و إنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة . هو مجرد أداة تعبر به الكلمة عن نفسها في وسط مادي
فتصبح صوتًا مسموعاً .. كما ي فعل الراديو حينما يحول الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع
.. فإذا أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير .. و إنما فقط يحدث
شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر
سليم .
و هذا حال الذاكرة .. فهي صور و أفكار و رؤى مستقلة مسكنها و مستقرها الروح و ليس المخ و
لا الجسد بحال .. و ما المخ إلا وسيلة لنقل هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم
مادي .
فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف و لا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الر وح
و لا يجري عليها ما يجري على الجسد .
التوازي مفقود بين الاثنين مما يدل على أننا أمام مستويين ( جسد و روح ) لا مستوى واحد اسمه
المادة .
و في حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها ( و هو الموضوع المحبب عن
مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب فترة زمنية بعينها فتمحى تماماً من وعيه و تكشط من
ذاكرته .
و كان يتحتم تبعاً للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل و مناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة و ليست تلفاً جزئيًا محددًا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث و بين حجم التلف المادي .
www.elaosboaonline.com
٢٠
و في حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الالتهابات أو النمو السرطاني ، حينما يبدأ
النسيان الكامل يلاحظ دائماً أن هذا النسيان يتخذ نظاماً خا صًا فتنسى في البداية أسماء الأعلام و آخر
ما ين سى هي الكلمات الدالة على الأفعال .
و هذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة و في مقابل تلف مشوش أصاب المخ
كيفما اتفق ، هو مرة أخرى عدم توازٍ له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى
و الكم و النظام بالإصابة المادية للمخ .
و هكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
و نجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد و على خلايا المخ .
و سوف تموت و تتعفن الخلايا المخية و تظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاا و دقائقها تذكرنا في
حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
و لم يكن الج سد إلا جهازًا تنفيذياً للفعل و للإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي .. كان مجرد
أداة للروح و مطية لها .
لم يكن المخ غلا سنترالاً .. و كابلات توصيل .
و كل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما يقول برجسون
يعطي الخط . ....... DONNER LA COMMUNICATION
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح و تحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به عضلات اللسان على
الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية و هكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي
.. فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحاً .. لنتذاكر ما فعلناه في د نيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف و
كل فعل مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم
٤ من = ٢ × مكنوز و مسطور في الروح .. و ليس تعلمًا من السبورة .. فنحن لا نكتشف أن ٢
عدم ، و إنما نولد ا .. و كل ما نفعله أننا نتذكرها .. و كذلك بداهات الرياضة و الهندسة و
المنطق .. كلها بداهات نولد ا مكنوزة فينا .. و كل ما يحدث أننا نتذكرها تذكرنا ا الخبرة
الدنيوية كل لحظة .
و بالمثل شخصيتنا .. نولد ا مسطورة في روحنا .. و كل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم
المناسبات و ا لملابسات و القالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها و شرها .. فيسجل عليها
فعلها .
و التسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الانتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
www.elaosboaonline.com
٢١
و هذا ما تعبر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الابتلاء و الاختبار في الدنيا .. فتحق عليه
الضلالة و تلزمه رتبته .
و هو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم أحدًا بخطيئة و لا يقهره
على شر .. و إنما كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية فعله هو ذاته .. و ليس في ذلك أي
معنى من معاني الجبر .. لأن هذه الط بيعة الداخلية هي التي نسميها أحياناً الضمير و أحياناً السريرة و
أحيانًا الفؤاد و يسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر و أخفى )) .
و نقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عن الموت (( طلع السر الإلهي )) أي صعدت الروح إلى بارئها ..
هذا السر المطلسم هو ابتداء حر و مبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاا و ليكون
هواها دا ً لا عليها .
و من هنا لا يصح القول بالحتميات في اال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي و الجبرية التاريخية
لأن الإنسان مجال حر و ليس مسمارًا أو ترساً في ماكينة .
و كما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال
اتمعات و التاريخ .. و كل ما يمكن القول به هو الترجيح و الاحتمال بناء على مقدمات إحصائية
.. و هو ترجيح يخطئ و يصيب و يحدث فيه تفاوت في طرفيه .. فمعدل عمر الإنسان في انجلترا مثلاً
هو ستون سنة .. و هذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام .. و هو غير ملزم
بالنسبة للفرد ، فقد يعيش فرد مثل برناردشو في انجلترا أكثر من تسعين سنة و يتجاوز المعدل . و قد
يموت في سن العشرين في حادثة . و قد يموت و هو طفل بمرضٍ معد .. ثم إن المعدل ذاته قابل
لل تذبذب من طرفيه صعودًا و هبوطاً من سنة لأخرى .. فلا يصح القول بالحتمية و الجبر في هذا
الموضوع .. و لا يجوز إخضاع اال الإنساني سواء كان فردًا أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو
معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي .
إنما تأتي فكرة الحتمية الخاط ئة من التصور الخاطئ للإنسان على أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا
عقل .. واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي .
ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر الماد ي أن الإنسان
والإنسانية بأسرها مغلولة في القوانين المادية .
وهكذا يجعل من الإنسان كت لة مادية أش به بكتلة القمر محكومة في دورانه حول الأرض والشمس
بالحتميات الفلكية .
وينسى أن الإ نسان يعيش في مستويين.
www.elaosboaonline.com
٢٢
مستوى الزمن الخارجي الموضوعي ا لمادي .. زمن الساعة .. وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد
والضرورات الاجتماعية ويعيش في أسر القوانين والحتميات .
ومستوى زمنه الخاص الداخلي . .زمن الشعور وزمن الحلم .. وفي هذا المستوى يعيش حياة حرة
بالفعل .. فيفكر و يحلم و يبتكر و يخترع و يقف من كل اتمع و التاريخ موقف الثورة .. بل
يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلى فعل خارجي فيقلب اتمع و يغير التار يخ من أساسه كما
حدث في كل الثورات التقدمية .
هذه الثنائية هي صفة ينفرد ا الإنسان .
وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص ا الإ نسان دون الجماد
وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفت الجماد . .فهنا نحن أمام وحدة لا ام تداد
لها في المكان ..
هي ا ل ( ( أن ا)) تتصف بالحضور و الديمومة و الشخوص و الكينونة و المثول الدائم في الوعي .. ثم
هي تفرض نفسها على الواقع الخارجي و تغيره .. و تفرض نفسها على الجسد و تحكمه و تقوده و
تعلو على ضروراته .. فتفرض عليه الصوم و الحرمان اختيارًا . بل قد تقوده إلى الموت فداء و تضح ية
.. مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد و ذيلاً تابعاً له و مادة
تطورت منه . مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئاً .. و إنما لا بد لنا أن نسلم (....) النفس
عالية على الجسد متعالية عليه و أا من جوهر مفارق لجوهر (....) فهي في واقع الأمر تستخدم
الجسد كأداة لأغراضها و مطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال .
و لا بد أن يتداعى إلى ذهننا الاحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري
على الجسد من موت و تآكل و تعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفاً بالحضور و الديمومة و
الشخوص في الوعي طوال الوقت .. فلا تتآكل كما يتآكل الجسد و لا هي تقع كما يقع الشعر و لا
هي تبلى الأسنان .
و إنه لأمر بديهي تماماً أن نتصور بقاءها بعد الموت .
فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد قبل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية في أثناء العمل ثم ندم
أو راحة بعد تمامه .. فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية و فكرة ملحة بالحساب و بأن هناك
خطأ و صواباً . و إننا نعلم بداهةً و بالفطرة التي ولدنا ا أن العدل و النظام هو ناموس الوجود و أن
المسئولية هي القاعدة .
و يفترض لنا هذا الشع ور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض و القاتل الذي
أفلت من محاسبة القانون البري الأرضي .. لا بد أن يعاقب و يحاسب .. لأن العالم الذي نعيش فيه
www.elaosboaonline.com
٢٣
يفصح عن النظام و الانضباط من أصغر ذرة إلى أكبر فلك .. و العبث غير موجود إلا في عقولنا و
أحكامنا المنح رفة .
و فكرة العدل و النظام و ضرورة العدل عالم آخر يتم فيه العدل و النظام و المحاسبة .
كل هذا علم نولد به .. و حقيقة تقول ا الفطرة و البداهة .
و لا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني و هو (( عمانويل كانت )) ذه الحقيقة في كتابه ( (نقد
العقل العلمي )) .
و لا غرابة في أن يصل إلى هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآناً .
إا الفطرة و البداهة التي تقوم عليها جميع العلوم .
و لا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحاً و أن له حياة بعد الموت و
أن هناك حساباًَ .. فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطر يق إلى هذه الحقائق .
و هذا العلم الذي نولد به .. و هذه البداهة التي نولد ا .. تقوم شاهدة على جميع العلوم المكتسبة و
ملزمة لها .. فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ و الصواب .. أما العلم الذي نولد به فهو جزء
من نظام الكون المحكم .. وهو الحقيقة الأولى ا لتي نعمل على ضوئها نرى جميع الحقائق الفرعية .. و
هي المعيار و المقياس .. و إذا فسد المعيار فسد كل شيء و أصبح كل شيء عبثاً في عبث و هو أمر
غير صحيح .
و إذا امنا بالبداهة فإن جميع العلوم و المعارف سوف ينسحب عليها الاام و سوف تنهدم لأا
تقوم أصلاً على ال بداهات .
فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة و مرجع لا يجوز الشك فيه ( لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة
ذاا ) نحن أمام متن هو لحم المعرفة و دمها . و كما نأتي إلى الحياة مزودين بعضلات لنتحرك ا و
ندافع عن أنفسنا كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولى لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل و
الصواب من الخطأ .
و أعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك ، فأنت تستطيع أن تدرك وضعك ( هل أنت واقف
أو جالس أو راقد ) دون أن تنظر إلى نفسك .. يأتيك هذا الإدراك و أنت مغمض العينين .. يأتيك
من داخلك .. و تقوم هذه المعرفة حجة على أ ية مشاهدة .
و حينما تقول .. أنا سعيد .. أنا شقي .. أنا أتألم .. فكلامك يقوم حجة بالغة و لا يجوز تكذيبه
بحجة منطقية .. بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع و لجاجة لا معنى لها .. فلا أحد أعرف بحال
نفسك من نفسك ذاا .
و بالمثل شهادة الفطرة و حكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى .. و حينما تقول الفطرة و
البداهة مؤيدة بالعلم و الفكر و التأمل .. حينما تقول بوجود الروح و النفس و بالحرية و بالمسئولية
www.elaosboaonline.com
٢٤
و المحاسبة ، و حينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظاماً .. فنحن هنا أمام حجة على
أعلى مستوى من اليقين .
و هو يقين مثل يقين العيان أو أكثر .. فالفطرة عضو مثل العين نولد به . و هو يقين أعلى من يقين
العلم .. لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي و النظريات العلمية تستنتج من متوسطات الأرقام ..
٤ هي حقيقة مطلقة صادقة صدقًا مطلقاً ، لا = ٢ × أما حكم البداهة فله صفة القطع و الإطلاق ٢
يجوز عليها ما يجوز من نسخ و تطور و تغير في نظريات العلم لأا مقبولة بديهية .
٢ مسألة لا تقبل الشك لأا حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا و أوحت ا البداهة . = ١ + ١
و هي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد .
لو أدرك الإنسان هذا لأراح و استر اح .. و لوّفر على نفسه كثيرًا من الجدل و الشقشقة و السفسطة
و المكابرة في مسألة الروح و الجسد و العقل و المخ و الحرية و الجبر و المسئولية و الحساب و لاكتفى
بالإصغاء إلى ما مس به فطرته و ما يفتي به قلبه و ما تشير به بصيرته .
و ذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب .
لنصغي إلى صوت نفوسنا و همس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة تشويه ذلك الصوت البكر
بحبائل المنطق و شراك الحجج .
و على من يشك في كلامي .. و على هواة الجدل و النقاش و المقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا
مقالي من أوله
خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي . .فأرصد في ورقة كل ما أحفظه من أرقام
. .رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء و
الزملاء وتليفونات المصالح والجرائد وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيباً وعمليات الجمع والطرح
والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة وتواريخ ميلادي وميلاد أولادي وثوابت الرياض ة والطبيعة مثل
النسبة التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء وما تعلمته في
كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات البيضاء وحجم الدم وسرعة
النبض وسرعة التنفس وجرعات ال عقاقير .. وفي لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات
الأرقام .. تداعت في ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب الكتروني وكان المشهد مذهلا ً.
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد . .كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدع اؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة . .كل عدد له مذكرة تفسيرية ملحقة به تشرح
دلالته ومعناه ؟ وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا تختلط ولا يطمس
بعضها بعضًا؟
www.elaosboaonline.com
١٨
وغير الأرقام . .هناك الأسماء والاص طلاحات والكلمات .. والأشكال والوجوه .. تزدحم ا رأسنا
وهناك معالم الطبيعة التي طفنا ا والأماكن التي زرناها .. وهناك الروائح .. ومع كل رائحة صورة
لامرأة عرفناها أو مشهد نذكره و لواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات .. وهناك
الطعوم .. والنكهات . يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوقاً أو يتحرك الغثيان اشمئزازًا .. ومع كل
طعم .. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم أو جرعة دواء مريرة و مرض طويل ممض و
أوجاع أليمة .. حتى لمسة النسيم الحريرية و رائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا
لفحات الهواء الرطيب مع ذ كراها و كأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات و الهمسات و الوشوشات و الصخب و الصراخ و الضجيج و العويل و النشيج .
و فاصل من موسيقى .
و مقطع من أغنية ..
و لطمة على وجه ..
و قرقعة عصاً على الظهر .
و حشرجة ألم ..
كل هذا تحفظه الذاكرة و تسجله في دقة شديدة و أمانة و معه بطاقة بالتاريخ و المناسبة و أسماء
الأشخاص و ظروف الواقعة و محضر بالأقوال .. معجزة .. اسمها الذاكرة .
إن معنا رقيباً حقيقياً يكتب بالورقة و القلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
و ما نتخيل أحياناً أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه و أنه موجود يظهر لنا فجأة في لحظ ة استرخاء أو
حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي و أحياناً يظهر زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء ينسى أبدًا .. و لا شيء يضيع .. و الماضي مكتوب بالفعل لحظة بلحظة و دقة قلب بدقة
قلب .
و السؤال الكبير بل اللغز المحير هو .. أين توجد هذه الصور .. أين هذا الأرش يف السري ؟
و هو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالم و أكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ .. و إا ليست أكثر من تغيرات كيميائية كهربائية تحدث
لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث تمامًا كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل و إن هذه
اللفائف المسجلة تحفظ بالمخ و إا تدور تلقائيًا لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان في أمانة و دقة .
الذاكرة مجرد نقش و حفر على مادة الخلايا .
و مصيرها أن تبلى و تتآكل كما تبلى النقوش و تتآكل و ينتهي شأا حينما ينتهي الإنسان بالموت و
تتآكل خلاياه .
www.elaosboaonline.com
١٩
رأي مريح و سهل و لكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه . فإذا كانت الذاكرة هي
مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا
المخية .. و ينبغي أن يكون هناك توازٍ بين الحادثين .. كل نقص في الذاكرة معينة لا بد أن يق ابله
تلف في الخلايا المختصة المقابلة .. و هو أمر لا يشاهد في إصابات المخ و أمراضه .. بل ما يشاهد هو
العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف ، و إنما الذي يحدث هو عاهة في النطق
.. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات . إن الموتور هو ا لذي يتلف بتلف الخلايا .. أما
الذاكرة .. أما صورة الكلمات في الذهن فتظل سليمة .
و هذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة و لا التذكر .
و إنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة . هو مجرد أداة تعبر به الكلمة عن نفسها في وسط مادي
فتصبح صوتًا مسموعاً .. كما ي فعل الراديو حينما يحول الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع
.. فإذا أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير .. و إنما فقط يحدث
شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر
سليم .
و هذا حال الذاكرة .. فهي صور و أفكار و رؤى مستقلة مسكنها و مستقرها الروح و ليس المخ و
لا الجسد بحال .. و ما المخ إلا وسيلة لنقل هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم
مادي .
فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف و لا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الر وح
و لا يجري عليها ما يجري على الجسد .
التوازي مفقود بين الاثنين مما يدل على أننا أمام مستويين ( جسد و روح ) لا مستوى واحد اسمه
المادة .
و في حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها ( و هو الموضوع المحبب عن
مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب فترة زمنية بعينها فتمحى تماماً من وعيه و تكشط من
ذاكرته .
و كان يتحتم تبعاً للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل و مناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة و ليست تلفاً جزئيًا محددًا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث و بين حجم التلف المادي .
www.elaosboaonline.com
٢٠
و في حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الالتهابات أو النمو السرطاني ، حينما يبدأ
النسيان الكامل يلاحظ دائماً أن هذا النسيان يتخذ نظاماً خا صًا فتنسى في البداية أسماء الأعلام و آخر
ما ين سى هي الكلمات الدالة على الأفعال .
و هذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة و في مقابل تلف مشوش أصاب المخ
كيفما اتفق ، هو مرة أخرى عدم توازٍ له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى
و الكم و النظام بالإصابة المادية للمخ .
و هكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
و نجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد و على خلايا المخ .
و سوف تموت و تتعفن الخلايا المخية و تظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاا و دقائقها تذكرنا في
حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
و لم يكن الج سد إلا جهازًا تنفيذياً للفعل و للإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي .. كان مجرد
أداة للروح و مطية لها .
لم يكن المخ غلا سنترالاً .. و كابلات توصيل .
و كل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما يقول برجسون
يعطي الخط . ....... DONNER LA COMMUNICATION
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح و تحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به عضلات اللسان على
الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية و هكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي
.. فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحاً .. لنتذاكر ما فعلناه في د نيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف و
كل فعل مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم
٤ من = ٢ × مكنوز و مسطور في الروح .. و ليس تعلمًا من السبورة .. فنحن لا نكتشف أن ٢
عدم ، و إنما نولد ا .. و كل ما نفعله أننا نتذكرها .. و كذلك بداهات الرياضة و الهندسة و
المنطق .. كلها بداهات نولد ا مكنوزة فينا .. و كل ما يحدث أننا نتذكرها تذكرنا ا الخبرة
الدنيوية كل لحظة .
و بالمثل شخصيتنا .. نولد ا مسطورة في روحنا .. و كل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم
المناسبات و ا لملابسات و القالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها و شرها .. فيسجل عليها
فعلها .
و التسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الانتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
www.elaosboaonline.com
٢١
و هذا ما تعبر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الابتلاء و الاختبار في الدنيا .. فتحق عليه
الضلالة و تلزمه رتبته .
و هو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم أحدًا بخطيئة و لا يقهره
على شر .. و إنما كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية فعله هو ذاته .. و ليس في ذلك أي
معنى من معاني الجبر .. لأن هذه الط بيعة الداخلية هي التي نسميها أحياناً الضمير و أحياناً السريرة و
أحيانًا الفؤاد و يسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر و أخفى )) .
و نقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عن الموت (( طلع السر الإلهي )) أي صعدت الروح إلى بارئها ..
هذا السر المطلسم هو ابتداء حر و مبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاا و ليكون
هواها دا ً لا عليها .
و من هنا لا يصح القول بالحتميات في اال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي و الجبرية التاريخية
لأن الإنسان مجال حر و ليس مسمارًا أو ترساً في ماكينة .
و كما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال
اتمعات و التاريخ .. و كل ما يمكن القول به هو الترجيح و الاحتمال بناء على مقدمات إحصائية
.. و هو ترجيح يخطئ و يصيب و يحدث فيه تفاوت في طرفيه .. فمعدل عمر الإنسان في انجلترا مثلاً
هو ستون سنة .. و هذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام .. و هو غير ملزم
بالنسبة للفرد ، فقد يعيش فرد مثل برناردشو في انجلترا أكثر من تسعين سنة و يتجاوز المعدل . و قد
يموت في سن العشرين في حادثة . و قد يموت و هو طفل بمرضٍ معد .. ثم إن المعدل ذاته قابل
لل تذبذب من طرفيه صعودًا و هبوطاً من سنة لأخرى .. فلا يصح القول بالحتمية و الجبر في هذا
الموضوع .. و لا يجوز إخضاع اال الإنساني سواء كان فردًا أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو
معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي .
إنما تأتي فكرة الحتمية الخاط ئة من التصور الخاطئ للإنسان على أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا
عقل .. واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي .
ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر الماد ي أن الإنسان
والإنسانية بأسرها مغلولة في القوانين المادية .
وهكذا يجعل من الإنسان كت لة مادية أش به بكتلة القمر محكومة في دورانه حول الأرض والشمس
بالحتميات الفلكية .
وينسى أن الإ نسان يعيش في مستويين.
www.elaosboaonline.com
٢٢
مستوى الزمن الخارجي الموضوعي ا لمادي .. زمن الساعة .. وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد
والضرورات الاجتماعية ويعيش في أسر القوانين والحتميات .
ومستوى زمنه الخاص الداخلي . .زمن الشعور وزمن الحلم .. وفي هذا المستوى يعيش حياة حرة
بالفعل .. فيفكر و يحلم و يبتكر و يخترع و يقف من كل اتمع و التاريخ موقف الثورة .. بل
يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلى فعل خارجي فيقلب اتمع و يغير التار يخ من أساسه كما
حدث في كل الثورات التقدمية .
هذه الثنائية هي صفة ينفرد ا الإنسان .
وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص ا الإ نسان دون الجماد
وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفت الجماد . .فهنا نحن أمام وحدة لا ام تداد
لها في المكان ..
هي ا ل ( ( أن ا)) تتصف بالحضور و الديمومة و الشخوص و الكينونة و المثول الدائم في الوعي .. ثم
هي تفرض نفسها على الواقع الخارجي و تغيره .. و تفرض نفسها على الجسد و تحكمه و تقوده و
تعلو على ضروراته .. فتفرض عليه الصوم و الحرمان اختيارًا . بل قد تقوده إلى الموت فداء و تضح ية
.. مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد و ذيلاً تابعاً له و مادة
تطورت منه . مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئاً .. و إنما لا بد لنا أن نسلم (....) النفس
عالية على الجسد متعالية عليه و أا من جوهر مفارق لجوهر (....) فهي في واقع الأمر تستخدم
الجسد كأداة لأغراضها و مطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال .
و لا بد أن يتداعى إلى ذهننا الاحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري
على الجسد من موت و تآكل و تعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفاً بالحضور و الديمومة و
الشخوص في الوعي طوال الوقت .. فلا تتآكل كما يتآكل الجسد و لا هي تقع كما يقع الشعر و لا
هي تبلى الأسنان .
و إنه لأمر بديهي تماماً أن نتصور بقاءها بعد الموت .
فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد قبل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية في أثناء العمل ثم ندم
أو راحة بعد تمامه .. فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية و فكرة ملحة بالحساب و بأن هناك
خطأ و صواباً . و إننا نعلم بداهةً و بالفطرة التي ولدنا ا أن العدل و النظام هو ناموس الوجود و أن
المسئولية هي القاعدة .
و يفترض لنا هذا الشع ور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض و القاتل الذي
أفلت من محاسبة القانون البري الأرضي .. لا بد أن يعاقب و يحاسب .. لأن العالم الذي نعيش فيه
www.elaosboaonline.com
٢٣
يفصح عن النظام و الانضباط من أصغر ذرة إلى أكبر فلك .. و العبث غير موجود إلا في عقولنا و
أحكامنا المنح رفة .
و فكرة العدل و النظام و ضرورة العدل عالم آخر يتم فيه العدل و النظام و المحاسبة .
كل هذا علم نولد به .. و حقيقة تقول ا الفطرة و البداهة .
و لا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني و هو (( عمانويل كانت )) ذه الحقيقة في كتابه ( (نقد
العقل العلمي )) .
و لا غرابة في أن يصل إلى هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآناً .
إا الفطرة و البداهة التي تقوم عليها جميع العلوم .
و لا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحاً و أن له حياة بعد الموت و
أن هناك حساباًَ .. فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطر يق إلى هذه الحقائق .
و هذا العلم الذي نولد به .. و هذه البداهة التي نولد ا .. تقوم شاهدة على جميع العلوم المكتسبة و
ملزمة لها .. فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ و الصواب .. أما العلم الذي نولد به فهو جزء
من نظام الكون المحكم .. وهو الحقيقة الأولى ا لتي نعمل على ضوئها نرى جميع الحقائق الفرعية .. و
هي المعيار و المقياس .. و إذا فسد المعيار فسد كل شيء و أصبح كل شيء عبثاً في عبث و هو أمر
غير صحيح .
و إذا امنا بالبداهة فإن جميع العلوم و المعارف سوف ينسحب عليها الاام و سوف تنهدم لأا
تقوم أصلاً على ال بداهات .
فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة و مرجع لا يجوز الشك فيه ( لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة
ذاا ) نحن أمام متن هو لحم المعرفة و دمها . و كما نأتي إلى الحياة مزودين بعضلات لنتحرك ا و
ندافع عن أنفسنا كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولى لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل و
الصواب من الخطأ .
و أعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك ، فأنت تستطيع أن تدرك وضعك ( هل أنت واقف
أو جالس أو راقد ) دون أن تنظر إلى نفسك .. يأتيك هذا الإدراك و أنت مغمض العينين .. يأتيك
من داخلك .. و تقوم هذه المعرفة حجة على أ ية مشاهدة .
و حينما تقول .. أنا سعيد .. أنا شقي .. أنا أتألم .. فكلامك يقوم حجة بالغة و لا يجوز تكذيبه
بحجة منطقية .. بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع و لجاجة لا معنى لها .. فلا أحد أعرف بحال
نفسك من نفسك ذاا .
و بالمثل شهادة الفطرة و حكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى .. و حينما تقول الفطرة و
البداهة مؤيدة بالعلم و الفكر و التأمل .. حينما تقول بوجود الروح و النفس و بالحرية و بالمسئولية
www.elaosboaonline.com
٢٤
و المحاسبة ، و حينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظاماً .. فنحن هنا أمام حجة على
أعلى مستوى من اليقين .
و هو يقين مثل يقين العيان أو أكثر .. فالفطرة عضو مثل العين نولد به . و هو يقين أعلى من يقين
العلم .. لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي و النظريات العلمية تستنتج من متوسطات الأرقام ..
٤ هي حقيقة مطلقة صادقة صدقًا مطلقاً ، لا = ٢ × أما حكم البداهة فله صفة القطع و الإطلاق ٢
يجوز عليها ما يجوز من نسخ و تطور و تغير في نظريات العلم لأا مقبولة بديهية .
٢ مسألة لا تقبل الشك لأا حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا و أوحت ا البداهة . = ١ + ١
و هي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد .
لو أدرك الإنسان هذا لأراح و استر اح .. و لوّفر على نفسه كثيرًا من الجدل و الشقشقة و السفسطة
و المكابرة في مسألة الروح و الجسد و العقل و المخ و الحرية و الجبر و المسئولية و الحساب و لاكتفى
بالإصغاء إلى ما مس به فطرته و ما يفتي به قلبه و ما تشير به بصيرته .
و ذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب .
لنصغي إلى صوت نفوسنا و همس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة تشويه ذلك الصوت البكر
بحبائل المنطق و شراك الحجج .
و على من يشك في كلامي .. و على هواة الجدل و النقاش و المقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا
مقالي من أوله